كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلفوا في اشتراط كمال الطهارة، كمن غسل رجله اليمنى فأدخلها في الخف قبل أن يغسل رجله اليسرى، ثم غسل رجله اليسرى فأدخلها أيضًا في الخف، هل يجوز له المسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك؟
ذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط كمال الطهارة، فقالوا في الصورة المذكورة: لا يجوز له المسح لأنه لبس أحد الخفين قبل كمال الطهارة.
وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه، ومالك وأصحابه، وإسحاق، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
واحتج أهل هذا القول بالأحاديث الواردة باشتراط الطهارة للمسح على الخفين، كحديث المغيرة بن شعبة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما»، متفق عليه، ولأبي داود عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «دع الخفَّين فإني أدخلت القدمين الخفَّين، وهما طاهرتان، فمسح عليهما».
وعن أبي هريرة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال له لما نبهه على أنه لم يغسل رجليه: «إني أدخلتهما طاهرتان».
وفي حديث صفوان بن عسال المتقدم «أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر»، الحديث، إلى غير ذلك من الأحاديث.
قالوا: والطهارة الناقصة كلا طهارة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم اشتراط كمال الطهارة وقت لبس الخف فأجازوا لبس خف اليمنى قبل غسل اليسرى والمسح عليه، إذا أحدث بعد ذلك، لأن الطهارة كملت بعد لبس الخف.
قالوا: والدوام كالابتداء. وممن قال بهذا القول: الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ويحيى بن آدم، والمزني، وداود. واختار هذا القول ابن المنذر، قاله النووي.
قال مقيده عفا الله عنه: منشأ الخلاف في هذه المسالة هو قاعدة مختلف فيها، «وهي هل يرتفع الحدث عن كل عضو من أعضاء الوضوء بمجرد غسله، أو لا يرتفع الحدث عن شيء منها إلا بتمام الوضوء»؟ وأظهرهما عندي أن الحدث معنى من المعاني لا ينقسم ولا يتجزَّأ، فلا يرتفع منه جزء، وأنه قبل تمام الوضوء محدث، والخف يشترط في المسح عليه أن يكون وقت لبسه غير محدث- والله تعالى أعلم، اهـ.
تنبيه:
جمهور العلماء على اشتراط النية في الوضوء والغسل، لأنهما قربة، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات»، وخالف أبو حنيفة قائلًا: إن طهارة الحدث لا تشترط فيها النية، كطهارة الخبث.
واختلف العلماء أيضًا في الغاية في قوله: {إلى المرافق}، هل هي داخلة فيجب غسل المرافق في الوضوء؟- وهو مذهب الجمهور- أو خارجة فلا يجب غسل المرافق فيه؟
والحق اشتراط النية، ووجوب غسل المرافق، والعلم عند الله تعالى.
واختلف العلماء في مسح الرأس في الوضوء هل يجب تعميمه، فقال مالك وأحمد، وجماعة: يجب تعميمه.
ولا شك أن الأحوط في الخروج من عهدة التكليف بالمسح. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: لا يجب التعميم.
واختلفوا في القدر المجزئ، فعن الشافعي: أقل ما يطلق عليه اسم المسح كاف، وعن أبي حنيفة: الربع، وعن بعضهم: الثلث، وعن بعضهم: الثلثان، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة، وحمله المالكية على ما إذا خيف بنزعها ضرر، وظاهر الدليل الإطلاق.
«وثبت عنه صلى الله عليه وسلم المسح على الناصية والعمامة»، ولا وجه للاستدلال به على الاكتفاء بالناصية، لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بها، بل مسح معها على العمامة، فقد ثبت في مسح الرأس ثلاث حالات: المسح على الرأس، والمسح على العمامة، والجمع بينهما بالمسح على الناصية، والعمامة.
والظاهر من الدليل جواز الحالات الثلاث المذكورة، والعلم عند الله تعالى. وما قدمنا من حكاية الإجماع على عم الاكتفاء في المسح على الخف بالتيمم، مع أن فيه بعض خلاف كما يأتي، لأنه لضعفه عندنا كالعدم، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية الكريمة خوف الإطالة.
قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} الآية. اعلم أن لفظة {من} في هذه الآية الكريمة محتملة، لأن تكون للتبعيض، فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيِّب، فلا يتعين ماله غبار، وبالأول قال الشافعي، وأحمد، وبالثاني قال مالك، وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعًا.
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير، وذلك في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} فقوله: {من حرج} نكرة في سياق النفي زيدت قبلها {مِنْ} والنكرة إذا كانت كذلك، فهي نص في العموم، كما تقرر في الأصول، قال في «مراقي السعود» عاطفًا على صيغ العموم:
وفي سياق المنفي منها يذكر ** إذا بنى أو زيد من منكر

فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج، والمناسب لذلك كون {من} لابتداء الغاية، لأن كثيرًا من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد، لا يخلو من حرج في الجملة.
ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصلِّ»، وفي لفظ: «فعنده مسجده وطهوره» الحديث.
فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة، أو الرمل طهور له ومسجد.
وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون {من} للتبعيض غير صحيح. فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد، دون غيره من أنواع الصعيد، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضِّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكةِ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء»، الحديث، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك، فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كون الأمر مذكورًا في معرض الامتنان، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة، كما تقرر في الأصول، قال في «مراقي السعود» في موانع اعتبار مفهوم المخالفة:
أو امتنان أو وفاق الواقع ** والجهل والتأكيد عند السامع

ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله، خص اللحم الطري منه في قوله: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان، فلا مفهوم مخالفة له، فيجوز أكل القديد مما في البحر.
الثاني: أن مفهوم التربة مفهوم لقب، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول.
الثالث: أن التربة فرد من أفراد الصعيد. وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصًا له عند الجمهور، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]، أو ذكرا في نصيبن كحديث «أيما إهاب دبغ فقد طهر» عند أحمد، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي وغيرهم، مع حديث «هلا انتفعتم بجلدها» يعني شاة ميتة عند الشيخين، كلاهما من حديث ابن عباس، فذِكر الصلاة الوسطى في الأول، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك، قال في «مراقي السعود» عاطفًا على ما لا يخصص به العموم:
وذكر ما وافقه من مفرد ** ومذهب الراوي على المعتمد

ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام، إلا أبو ثور محتجًا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص.
وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام، والصعيد في اللغة: وجه الأرض، كان عليه تراب، أو لم يكن، قاله الخليل، وابن الأعرابي، والزجاج.
قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافًا بين أهل اللغة قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] أي أرضًا غليظة لا تنبت شيئًا، وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، ومنه قول ذي الرمة:
كأنه بالضحى ترمى الصعيد به ** دبابة في عظام الرأس خرطوم

وإنما سمي صعيدًا، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس، ومنه حديث «إياكم والجلوس في الصعدات»، قاله القرطبي وغيره عنه.
واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة: «الطيب»، هو الطاهر، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله، ترابًا كان أو رملًا، أو حجارة، أو معدنًا، أو سبخة، إذا كان ذلك طاهرًا. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم.
وقالت طائفة: الطيب: الحلال، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب. وقال الشافعي، وأبو يوسف: الصعيد الطيب التراب المنبت، بدليل قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] الآية.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن المسالة لها واسطة وطرفان: طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول، ولا مغصوب. وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به، وهو الذهب والفضة الخالصان، والياقوت والزمرد، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء، فمن ذلك المعادن.
فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك، وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش، فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، ومشهور مذهب مالك المنع، ومن ذلك التيمم على الثلج، فروي عن مالك في «المدونة»، والمبسوط جوازه: قيل: مطلقًا. وقيل: عند عدم الصعيد، وفي غيرهما منعه.
واختلف عنه في التيمم على العود، فالجمهور على المنع، وفي «مختصر الوقار» أنه جائز، وقيل: يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها، وذكر الثعلبي أن مالكًا قال: لو ضرب بيده على شجرة، ثم مسح بها أجزأه، قال: وقال الأوزاعي، والثوري: يجوز بالأرض، وكل ما عليها من الشجر والحجر، والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب بيده على الجمد، والثلج أجزاء.
وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل، والزرنيخ، والنورة، والجص، والجوهر المسحوق، ويمنعه بسحالة الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، لأن ذلك ليس من جنس الأرض.
وذكر النقاش عن ابن علية، وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك، والزعفران، وأبطل ابن عطية هذا القول، ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ، وعن ابن عباس نحوه، وعنه فيمن أدركه التيمم، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به، قاله القرطبي.
وأما التراب المنقول في طبق أو غيره، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك، وهو قول جمهور المالكية، ومذهب الشافعي، وأصحابه. وعن بعض المالكية، وجماعة من العلماء منعه.